محمد مدنى يكتب : صعيدى فى ألمانيا
جريدة جماهيركتب : محمد مدنى
كنت فى ألمانيا منذ عشرة أعوام مشاركا فى منحة دراسية من معهد جوتة الألمانى فى مدينة دوسلدورف غرب ألمانيا.
كنا 18 دارس من 18 دولة مختلفة وقد أعد المنظمون للمنحة برنامجا دراسيا وترفيهيا وثقافيا متكاملا يتناسب مع مؤهلات الدارسين .
كان من ضمن البرنامج زيارة لأحد متاحف الفن التجريدي والرسومات التجريدية ورغم انى فى مجال فنون الرسم ومجال الموسيقى بكل مدارسها أكاد اكون اخر من يفهم كما أن قدراتى تعجز عن فهم ذلك ولو عشت عمر سيدنا نوح .
حتى لا أطيل دخلنا للمتحف المليء باللوحات ذات الأحجام المختلفة ووجدت الناس تقف فى صمت رهيب أمام اللوحات كأنها فى محاريب مقدسة أو كأنهم يؤدون صلاة معينة يناجون أحدا لا اعرفه ولا تسمع فى المتحف الا همسا وبعض الأصوات من الآهات من فرط الإعجاب تصدر خلسة أمام بعض اللوحات .
والإضاءة الموزعة بشكل معين فى المكان مع الخلفية الموسيقية تجبر الحضور على الإحساس بالتواجد فى مكان له طبيعة خاصة .
كل ذلك وانا أشعر انى دخلت فى مكان خاطىء فليس هناك لوحة واحدة يمكن لك أن تفهمها وليس هناك اتفاق على معنى اللوحة وفكرتها عندما تم سؤال المجموعة عن لوحة ما .
وفجأة استحضرت كل مصريتى ودراستى الأزهرية وهيبة رجال الصعيد الجارية فى عروقى وأخذت امشى بطريقة ملفتة كتلك اللى يمشى بها العلماء والمبتكرون وكبار الفنانين ومشيت قاصدا لوحة ما ولاحظت أن الكل توقف وأخذ يتابع خطوات .
بدأت أنفاسى تعلو شيئا فشيئا كانى ألهث وفتحت عينايا لأقصى مدى من الاتساع وأخذت أصرخ صرخات مكتومة وانا أقترب أكثر وأكثر من اللوحة ، وأخذت استدير مرة وأنظر إلى الأرض مرة وإلى سقف المتحف مرات وانا أصرخ بصوت خافت وبحذر عن جمال هذه اللوحة اللى امامى وعن عبقريتها التى تكاد تكون إلهاما من السماء لا يتكرر وأخذت اتحدث بلغة ألمانية مسرحية عن تداخل الالوان المعبر عن تشابك خطوط الحياه وعدم وضوح الرؤية عند راسم اللوحة وعن كم المعاناه التى كان يعانيها وحده دون أن يشعر به أحد .
وعن الأمل القادم من أبعاد مختلفة وعن الخيانات والطعنات المتعددة التى تعرض لها وتحدثت عن الخوف والحزن والألم وعن التحمل والصبر وكدت أبكى وانا أشرح اللوحة فى صوت جنائزى وارتفعت حرارتى وما أن فرغت حتى وجدت كل من المتحف يصفقون ومنهم من يبكى وهم يتسائلون من اى البلاد أتى هذا الرجل العبقرى وفى اى الجامعات درس الفنون ، قلت لهم فى تواضع هناك الكثير من الأشياء لا تأتى بالدراسة ، نحن فى مصر نولد هكذا أو نموت .
خرجنا من المتحف والكل يتابعنى بنظرات الإعجاب خرجت وانا أقول سبحان مقسم الأرزاق والعقول .
أنا لو اشتغلت فى التسويق أنفع خالص أنا نفسى أقنعتنى جدا وكنت مصدقنى جدا ، لدرجة إنى عجبتنى وكنت هسقفلى ، لدرجة إنى كنت هرسم لوحة وأبيعهالى.